كنت في شبابي المبكر عابثاً مستهتراً، شأني في ذلك شأن الكثيرين من أترابي، نمرح كثيراً، ونعبث أحياناً. ولكن خوف الله الذي زرعته فيّ الكنيسة ورعته أسرتي كان كثيراً ما يردعني عن الشرور.
أتذكر أنه في إحدى الإشارات المرورية شاهدت فتاة تسير إلى جوار سيارتي على غير هدى، ممن يسلكن بغير عفة، فتحركت محبة المسيح في داخلي نحوها، وأنّت عليَّ أحشائي.
ناديتها وسألتها عما تريد، فلم تجب. فلما أنكرت عليها سلوكها، قالت في انكسار - وقد توسمت فيّ خيراً:
- أنا أنفق على أسرتي.
- صدمتني إجابتها، وصمتُ لفترة مثبتاً عيني عليها، راثياً لحالها، بشفقة لم أعهدها في حياتي من قبل.
- قلت لها وكأني مسئول عنها: لا تعودي إلى مثل ذلك مجدداً!
- قالت متسائلة (وقد اعتبرتها مجرد نصيحة عابرة، كتلك التي تسمعها من ضباط البوليس أو بعض من أفراد الحي): ثم ماذا؟
- أجبت على الفور: أنا.. أنا أتعهد بكل ما تحتاجه أسرتك، ولم أنتظر إجابتها إذ أشرت إليها لتركب إلى جواري لأصل بها إلى بيتها.
كان الحي في منطقة عشوائيات، لم تستطيع السيارة أن تتقدم كثيراً فأوقفتها وسرت معها حتى وصلنا إلى شارع ضيق جداً، حيث أشارت إلى إحدى البنايات الحقيرة وفي داخلها حجرة سفلية كئيبة رطبة تفوح منها رائحة الفقر والمرض. في الداخل اكتشفت أن شقيقتها تعاني من مرض السل، وأم لم تقل بؤساً عن اثنيهما، أما الأب المتقدم في السن فقد كان راقداً في ركن من الحجرة.
قررت يومها أن أجدد لهم الحجرة.. أنظفها وأطليها وأجدد أثاثها، وفي مرة لاحقة أحضرت ثلاجة وجهاز بوتاجاز. ثم أدخلت الفتاتان مستشفى الصدر، وبعد عدة أسابيع وبإلحاح على والدي أوجدنا لهما عملاً، كما استطعت أن أحمس بعض من أصدقائي لدفع ما يتيسر لهم من المال من أجل انتشال هذه الأسرة التعيسة، واستعادة كرامتها.
ونجحنا بنعمة المسيح في تحويلها إلى أسرة طبيعية منتجة تمارس حياتها بشكل جيد. وانقطعت عن متابعتهم مكتفياً بما أرسله أنا وأصدقائي من عشور عن طريق أحد الآباء.
لقد اكتشفت أن العاطفة يمكن أن تثمر كل هذا الخير والفرح الحقيقي متى سارت في الاتجاه الصحيح. فإما أن تكون طاقة انطلاقية بناءة، أو طاقة انطلاقية هدامة. وبمعنى آخر: إما أن تتجه المحبة التي فينا نحو الآخرين فتثمر أو تتسرب إلى الداخل فتدمر. حقاً يقول الكتاب: "المحبة لا تطلب ما لنفسها" (1كو13 B!co